Monday, April 9, 2012

!! الإبصار

هل تعرف مدي العناء الذي يلاقيه ضعاف النظر بدون نظاراتهم ؟ ..لن تعرف إلا لو جربت ..لو كنت ضعيف النظروتعرضت نظارتك للكسر..واضطررت للتعامل مع العالم يوما بدونها ..كيف تعرف لو كنت صحيح النظر، أو لو كنت تتوهم أنك كذلك ؟؟..أخبرني صديق يوماعن بداية استعماله للنظارة .. قال أنه قضي وقتا طويلا قبلها دون أن يدرك شيئا عن ضعف نظره..عندما كان يري الكلمات مشوهة أو مهتزة علي السبورة كان يعتقد أن ذلك بسبب بعدها أولسوء خط المدرس .. إلي أن اكتشف الأمر أيام الجامعة .. سأل أحد زملاؤه عن جملة بعيدة لا يتبينها فقال له أنها واضحة تماما .. سأله ما اذا كانت بعيدة أو غير واضحة فقال الزميل لا .. أخبره أن الكلمات واضحة تماما وأنه يتعين عليه مراجعة طبيب عيون.. في ذلك اليوم الذي كنت أتحمل سخافة العالم فيه منتظرا اصلاح النظارة طلبت من صديق ورقة للكتابة..أعطاني عدة ورقات مستطيلة سميكة متساوية الحجم .. تطلعت لها باهتمام .. ابتسم و أخبرني أنها أوراق مميزة جدا لن أجدها مع غيره ..سألت فقال أنها تخص أخته التي تكتب بطريقة برايل..سألته باهتمام عن الأمر..وصف لي ماكينة بيركنز الخاصة بالمكفوفين وكيفية ترميز الحروف بها..كيف يتم حفظ الرمز ثم تحسسه علي الآلة قبل طبعه علي الأوراق ليمكن قرائته بعدها .. كلمني عن المعاناة التي كانوا يعانوها عندما كانوا ملحقين بصفوف الطلبة المبصرين ويدرسون نفس مناهجهم ثم كيف تم تعديل المناهج واستبعاد الخرائط والهندسة وكل ما يعتمد علي النظر منها..وأنه رغم وجود كتب دراسية مكتوبة بطريقة برايل فان علي المكفوف لو احتاج كتابا مساعداغير مكتوب بها أن يستمع لمن يلقي عليه الكلمات ليخطهاعبرالآلة علي أوراقه الخاصة كي يمكنه قرائتها بعدها..طول الوقت كنت أشعر بألم ما بداخلي ..كنت منزعجا وأنا أتأمله يسترسل وأتخيل شخصا ما لا يمكنه أن يري شيئا إلا في خياله..فكرت أنها ربما لم تر شيئا مطلقا ..سألته فأخبرني بالفعل أنها ولدت مكفوفة وأن الأسرة سألت أكفأ الأطباء - من مصر وخارجها - في محاولة لانقاذها لكنهم قالوا أن تمزق الشبكية لديها لن يجديه أي نوع من العمليات .. تصاعد الألم بداخلي أكثر ..سألته عما تدرسه وعن هواياتها .. قال أنها متفوقة جدا بالنسبة لأقرانها لكنه محتار في الكلية التي يمكن أن تدخلها..أخبرني أنه علمها التعامل مع أجهزة الكومبيوتر بطريقة رائعة تجعلها تفوق حتي من هم في سنها من المبصرين..سألته إذا ما كانت تعزف أو تحب أن تتعلم العزف علي شئ ما.. قلت له أنه قد يساعدها نفسيا و معنويا قال لي أنها لم تجرب لكن لا يجب أن أقلق بشأن معنوياتها لأنها ممتازة وتفوقها ورعاية أسرتها ومهارتها في التعامل مع الكومبيوتر أمور كفيلة بذلك .. 
 ..
لم يمكنني مغالبة الحزن بداخلي حتي بعدما افترقنا.. حتي عندما حل الليل وأويت الي فراشي .. تذكرت قصة سمعتها في فيلم دخان .. عن صاحب محل السجائر الذي ضبط فتي يسرق بعض مجلات الإثارة من داخل محله فاندفع راكضا خلفه.. أفلت الفتي وترك محفظته التي سقطت في هرولته .. فتحها ليجد صورة لولد صغير مع أمه .. وجد عنوانه في بطاقة بالمحفظة .. فقرر الذهاب الي هذه المنطقة الشعبية البعيدة عن قلب المدينة الصاخب .. طرق الباب .. سمع صوتا أنثويا ينادي باسم الفتي .. كانت نبرته ودودة مشتاقة "انت جيت يا حبيبي" ..انفتح الباب واندفعت منه سيدة عجوزضمته الي صدرها دون أن يتدارك الأمر:"حمد الله علي سلامتك" .. أدرك الرجل أن العجوز مكفوفة البصر بينما أدركت من رائحته و جسه أنه ليس حفيدها غير أنها واصلت احتضانها و جذبته مرحبة الي داخل المنزل..لم يجد الرجل فرصة ليفكر..انخرط في التمثيلية ودخل معها .. جلس معها يتأمل البيت المتواضع .. طلبت منه أن يطلب لهما الدجاج الذي يحبانه ..قرر متابعة اللعبة.. طلب الدجاج .. وتناول الطعام مع العجوز السعيدة كأنه حفيدها الذي تعتاد منه ذلك بالفعل .. كانت بادية السرور وهي تسمعه وهي تأكل وتشرب معه .. نامت علي الأريكة بعد الوجبة و قام الرجل .. أخرج محفظة الفتي من جيبه وتركها علي المنضدة .. لفت انتباهه كاميرا التصوير الموضوعة هناك..تردد لحظات ثم حسم أمره والتقطها وخرج .. التقط الرجل بالكاميرا مئات الصور.. كلها من أمام متجره في الزاوية للزاوية المقابلة في التقاطع في السابعة صباحا .. مئات الصور لمئات الناس في أوضاع مختلفة .. أخبر الرجل صديقه عن مشروع حياته وهما يدخنان سويا ..قال صديقه أنه نفس المكان ونفس الوقت وأن ناسا كثيرين يتكررون لأنهم بالقطع من رواد المكان الدائمين .. قال الرجل أنه لا تكرار.. المكان هو لكن الصور مختلفة تماما.. حتي صور نفس الأشخاص ..انهم ينهمكون في اندفاعهم ولا يدرون شيئا عن اختلاف الأحوال كل يوم حتي في نفس المشهد وفي نفس الساعة..كل منهم يبدو مختلفا كل يوم مع أنه نفس الشخص لكنه لا يعرف كيف بدا هذا اليوم .. مثلما يبدو قطار البلدة لراكبيه يتحرك في خط مستقيم مع أنه للناظر من الخارج يتلوي في انحناءات مستمرة .. لقد سرق الكاميرا ربما.. لكنه حقق بها حلم حياته ومشروعها الأعظم ..أخذها مقابل لحظات من السعادة لباها لامرأة كفيفة وحيدة عجوز.. رأي صاحبه صورة زوجته التي توفيت من سنوات..كانت جميلة كما لم يراها قبلا .. ظل ينظرلصديقه من خلال خطوط الدخان الصاعدة في تلو
..
راودتني قبل النوم فكرة .. ربما كونها لم تبصر شيئا منذ ولادتها أمر غيرسئ كما يبدو .. كيف سيكون الأمر لو أنها رأت كل هذه الدنيا ثم حرمت منها ؟؟ .. هل يجب أن أحزن لأجلها حقا ؟ .. من يحتاج الشفقة حقا ؟ .. فكرت في نفسي .. ماذا كان سيحدث لو لم أعرف أني ضعيف البصر .. ألم يكن من الأفضل لو لم أكتشف ؟