Thursday, August 16, 2012

!! الرفات يعود


يلفت انتباهك شئ ما فتتعلق به فجأة دون أن تلمس سببا محددا لكنك تعتقد في أعماقك أن الجواب قادم لا ريب .. كان مشهدا في مسلسل تركي مررت به مصادفة .. ربة بيت تعتقد أن زوجها ملها وأنه لا يحترمها كزميلاته العاملات وأنه لم يعد يحبها بعد أن أحب احداهن .. ارتدت قميصا يليق بفتاة صغيرة .. حلت شعرهاكمراهقة.. عملت في البيت بمرح و هي ترقص علي أنغام الموسيقي .. استعدت جيدا بالورود لحبيبها القادم .. هرولت لاستقباله اذ سمعت صوت الباب.. فوجئت بصديقه معه .. اعتذر صديقه وانسحب ..هو أنبها علي منظرها المراهق و علي اندفاعها الأخرق .. قالت أنها تفعل هذا من أجله،صارحته بمخاوفها وأفكارها عن حبه غيرها وتركها، أنبها علي شكوكها الحمقاء وغادر..عادت الزوجة الحزينة الي سيرتها الأولي ..الي عملها الدؤوب في رعاية أطفالها وتهذيب بيتها .. بعد أيام عاد الزوج من عمله دخل حجرة النوم و انهمك يعمل بها.. أعدت مائدة الطعام ونادت عليه .. أخذها من يدها الي الحجرة ليريها كيف غطي السرير بالورود التي تحبها .. فرحت كأنها طفلة وهي تلتقطها وتحتضنها.. أخبرها أنه لم ولن يحب غيرها .. جمال المشهد جعلني أفكرفي متابعة القصة .. لكن الأعباء لم تتح لي هذه الرفاهية فلم يصدف أن شاهدت المسلسل الا بعدها بأسبوعين .. وجدت الزوجة تقدم نفسها في مقابلة للعمل بشركة .. لم تكن عملت من قبل وكانت تناضل لاقناع المديرة بأنها بشهادتها ومهارتها الاجتماعية ستتغلب علي هذا..لم يبد أدني قدر من الاقتناع علي المديرة التي صارحتها بأنها لا تعرف ما قد تقدمه سيدة في أواخر الثلاثينات خبرتها الوحيدة في تربية الأطفال للعمل .. لم تستسلم وألحت عليها لتعطيها الفرصة ولتفكر بشأنها .. لم يصادفني المسلسل مرة اخري ولم أبحث عنه..أصرت اذن علي تحويل مسار حياتها.. كان مشهد الهدية يراودني .. لم يرضيها الحب .. هل هو يأس أو ملل أو هروب من مصير دفعها له اختيار خاطئ ؟؟ .. 
 كان العجوز الي جواري يرتدي حلة كلاسيكية و يحمل حقيبة جلدية ..قدمت له العصير .. تمنع و شكر لي مجاملتي وقاوم اصراري قبل أن يستسلم .. أخبرته أن لا مجاملة .. أريته العلبة الثانية وأخبرته أني دائما "أعمل حسابي" .. كنت أعنيها ..فليس منطقيا أن تشرب وحدك عصيرا في سفر مرهق لا يخلو من رفقة .. قدم الي سندويتشا و طلب مشاركتي بالمثل .. قال: "حاجة بسيطة كده اليومين دول صيام بقي" (كنا في منتصف ابريل) .. كلمني عن عمله كخبير ومراجع ضريبي .. كان عائدا للاسكندرية حيث مسكنه و مكتبه بعد أن أنهي عملا بالقاهرة تمثل في تقديم رأيه كاستشاري متخصص بمجاله في قضية بمحكمة النقض .. حدثني عن فترة تجنيده حيث قضي زهرة شبابه في الجيش ست سنوات من 70 - 77 من سن 21 حتي 28سنة .. الآن يود أن يتقاعد أخيرا .. سيسافر مع زوجته ليقضيا الوقت بالتبادل عند ابنيهما .. تكلم بفخر عن ابنه الذي تزوج و استقر في أمريكاوابنته التي تزوجت و رحلت الي فرنسا .. سألته بتعجب عنهما ومدي رضاه عن هذا الرحيل لم يبد سخطا بل تكلم عنها كمسألة اعتيادية .. كأنهما سافرا الي القاهرة مثلا .. قال لي ان ظروف عملهما صادفت ان يسافر كل منهم لبعض الأقارب ليعمل هناك قبل أن يستقر كل منهم في مكانه .. أعطاني كارته الخاص وقال لي أن أمر لو نزلت الاسكندرية .. كان مكتبه هناك لثلاثين سنة ربما .. لكنه سيرحل الي فرنسا أو أمريكا قريبا !! .. سيذهب الي أولاده أو بمعني أدق سيتنقل بينهما .. افترقنا وخطر لي بعدها أني لم أسأله عن أصدقائه.. أله أصدقاء؟ .. هل لكلمة الصداقة معني لديه؟ ..
..
 ما الصداقة ؟؟ .. من أسابيع لم أر صديقي الحميم .. اتصال هاتفي واحد أو اثنين .. هو ينشغل بالعمل وأنا بالسفر .. ولقائاتنا تصبح قليلة وغريبة .. ربما يجلس كل منا قليلا منتظرا أن يبدأ رفيقه الكلام .. احتدمت علاقتنا بشدة بحيث أصبحت مستعصية علي التطور .. أصبح كل منا يعرف كيف يفكر صاحبه و كيف سيكون رايه في كذا .. لقد أنبنا بعضنا بما يكفي علي أخطائنا بحيث أصبح حكي المزيد عن الأخطاء تكرارا سخيفا تعرف الرد عليه مسبقا .. أريد الآن أن أحكي عن هذه الأخطاء دون أن أسمع الردود المتوقعة أو ربما أن أسمع ردودا أصلا..أريد أن أحكي عن كل الأشياء التي كنت قررت قبل أن تحتدم علاقتنا أن لا أحكيها له .. التي أصبح من العسير علي أن أرويها له الآن .. نتوقف عن اللقاء ؟؟ .. ربما نلتقي كأننا نلتقي مجددا بعد زمن ؟ .. ربما نطرق أوتارا جديدة في معزوفة صداقتنا .. غائب هو .. غيابه يجعل حضوره يشتد .. كيف يزيد حضور الغائبين ؟؟ ..
 قرأت خبرا عن اعادة اسرائيل رفات92 فلسطينيا قاموا بعمليات استشهادية في أراضيها .. تعجبت للخبر .. ما الذي يساويه هذا ؟ .. لماذا احتفظت به و لماذا تعيده الآن ؟ .. أخذت الخبر بلا اهتمام حتي شاهدت تقريرا اخباريا عن الحدث .. في بيت شهيد فلسطيني .. أمه و ابنه يتحدثان .. الأم تروي عن القصص الرائعة التي تحكيها عن الوالد للابن .. تقول أن ابنها لم يمت و أنه يعيش في ولده و الولد يردد أقاويل جدته عن بطولة ابيه يقبل احدي صوره التي نزين جدران البيت و مناضده محاطة بالورود .. لم يبد الرجل غائبا أبدا عن بيته .. وبدا أن الرفات مهم جدا للأم .. لم يكن يساوي حياة لديها .. ابنها كان حيا بالفعل لديها وفي قلب حفيدها .. لكنه كان يساوي قصة جديدة حقيقية .. تجسيدا لمعني .. أكثر من رمز .. سيكون الضريح الذي يحوي الرفات ملتقي تؤمه مع الناس لتحكي لهم القصة و  تثبت الحقيقة و تخلق فيهم قبسا جديدا يضئ حياتهم يستمدونه من قصة البطل الذي غاب .. هل غاب حقا ؟؟ .. ما الذي يحدث بغيابنا ؟؟ ما الذي يحدث بموتنا  ؟؟ ..
..
في فيلم 21 جرام .. يعاني البطل من مرض فاتك بعضلة القلب .. الأمر الذي يستلزم زرع قلب جديد .. يدخله طبيبه علي قائمة الانتظار بالمستشفي .. هؤلاء الذي ينتظرون شخصا ما غادرت روحه جسده للتو - أو علي وشك أن تغادر - ليقوم الأطباء بزرع قلبه الطازج في جسد مريض ينتظر  .. كان اليأس قد استمد به .. كان قد فشل في ايجاد معني لحياته المعلقة بين العدم و الوجود .. كان يهمل تعليمات الطبيب ببراعة منتظرا موتا لا يأتي أبدا .. حتي فوجئ بالحادثة التي أنقذت جسده من قلبه الضعيف .. اتصلوا به ليبلغوه بأن الوقت حان و القلب البديل جاهز .. تمت العملية بنجاح .. يعيش بعدها نصف حياة بنصف جهد و نصف انفعال و نصف رغبة .. يشغله السؤال عن الشخص الذي يحمل قلبه .. يتتبع الأوراق ليعرف أنه رجل أعمال مات في حادث سيارة و معه طفلتاه الصغيرتان .. يفجعه الأمر ويقرر أن يقابل الزوجة .. يصل للعنوان يراقب تحركاتها .. يتقرب منها في الكافيتريا التي ترتادها .. يعجز عن البوح بالامر .. كانت محطمة تماما .. تقضي وقتها في البكاء و مشاهدة صور أطفالها و تفحص حاجياتهم ثم التريض و الجلوس في الكافيتريا .. تتجاهله في البدء قبل أن تجده متنفسا للحكي بعدما توالت محاولاته.. لم تعرف عنه الكثير لكنها استراحت لاهتمامه .. استراحت للحكي له.. يشجعه تعاطفه .. رغبته في أن يصحح وضعا لم يكن مسئولا عنه لكنه يشعر بتورطه فيه بحمله هذا القلب .. تتوثق العلاقة .. وتتابع اللقاءات .. يتردد في اخبارها .. يصبح اللقاء حميما جسديا .. تنهار الأرملة مجددا .. لا تنسي أطفالها لحظة .. في لحظة استسلام يخبرها عن قلبه .. قلب زوجها .. تثور ثائرتها .. تصرخ فيه وتطرده .. يعاودا اللقاء .. يخبرها أنه مستعد لعمل اي شئ لتعويض خسارتها .. لو أن الأمر بيده .. تقول له أن ما تريده حقا هو أن ينتقم لها من قاتل زوجها وطفلتيها .. تقول ان لا شئ يرضيها سوي أن يقتله .. كان القاتل مدمن خمر اعتقل بسببها مرات .. كان مخمورا أثناء قيادته .. اعتبر قتله خطأ و سجن لشهور ليخرج بعدها من السجن منهارا .. كان رجلا متدينا رغم ادمانه .. عذبه الاحساس بالذنب حتي قتله حيا .. لم يعد قادرا علي الحياة بشكل طبيعي مع زوجته وطفلتيه .. يتذكر الحادث ولا يمكنه مسامحة نفسه .. ينتظر خلاصا لا يأتي مثل رفيقيه في البطولة .. يرحل الي مكان ناء في البلدة عله يجد خلاصا لا يعرفه .. يعرف الصديقان بمكانه .. يقيما بفندق في المكان ذاته .. في ليلة يخرج صاحب القلب ليفتش عنه .. عندما يجده يسحبه عن الطريق الي الصحراء .. يسدد له مسدسه .. لا يمانع الآخر .. ينتظر النهاية آملا .. يحاول أن يطلق الرصاص .. لا يفعل.. يأمره أن يرحل عن البلدة كلها ولا يظهر مجددا .. يعود لها ليلا يخبرها بأنه أنجز المهمة .. يبيتا الليلة في الفندق .. أثناء نومهما يسمعا الصوت فيستيقظا .. يتقدم مشهرا مسدسه من الباب .. ينفتح ليدخل القاتل .. تصرخ فيه : لماذا لم تقتله ؟ .. يتقدم القاتل اليه .. يسأله أيضا لماذا لم يقتله  و يطلب منه أن يخلصه يدفع بيده الممسكة المسدس الي صدره .. يتوقف الآخر فيطيح القاتل به و يستخلص المسدس .. تهوي الزوجة علي رأس القاتل بهراوة .. يسقط أرضا و هي توسعه ضربا بلا هوادة ولا يقاوم.. يحاول صاحب القلب أن يوقفها بلا جدوي يلوح لها من سقطته لكنها لا تجيب .. يلتقط المسدس القريب منه .. يوجهه لقلبه و يطلق النار .. تتوقف الأرملة وتنقض عليه صارخة .. تطلب مساعدة القاتل .. ينقلانه الي المستشفي .. تصاب الزوجة باغماء لتكتشف بعد فحوصات سريعة أنها حامل .. تترك القاتل يرحل دون حساب .. تجلس وحيدة تتحسس القلب الجديد الذي يتكون في أحشائها .. في نفس الوقت الذي يعلن ذلك الأزيز المميز لرسام القلب الكهربائي أن قلب الرجل الذي وهبها فرصة الحياة الجديدة قد توقف عن النبض