Friday, January 23, 2015

بيانولا الفقد




بـيانولا و ألابـنضـه و حــركـات

أطلعى بقى يا نصاص يا فرنكات

أنا عازمك يا حبيبــى لما ألاقيك

على فسحة فى جميــع الطرقات

  نتنطط نتعفرت نترقص كده

 ! كدهه ! كدهه ! كدهه

! كدا كدا كدا كدهه

يقفز ضاحكا في مرح وهو يدندنها .. تفس الشخص الذي قال لي قبلها بأيام : " عارف .. الفقد دا أسوأ تجربة ممكن الواحد يمر بيها .. مش فقد انسان بس لكن فقد شئ اي شئ انت متعلق بيه .. مكان .. ظروف .. أشياء .. أي حاجة ترتبط بيها ويمثل ارتباطك دا شئ ليك ويبقي جزء من حياتك وكيانك ومتعلق وجودك بيه .. أي فقد ! " .. قال هذا بعد أن حكي قصة حبه التي انتهت للتو وتكلم قليلا عن تعافيه من آثار الصدمة .. قصة أخري عن علاقة تستمر شهور أو سنوات يعطي فيها طرفا أقل مما يأخذ بكثير .. لكنه لا يكترث لذلك في ظل انغماسه في نشوة اللحظات الرائعة .. بينما الطرف الآخر غير مهتم أبدا .. حتي تصل نقطة يعرف فيها الشخص المعطاء أن شيئا ما ليس علي ما يرام .. وأنه بحاجة للمساندة قبل أن يقع .. ليجد الطرف الآخذ ساعتها غير موجود بل هو ينتظره ليعطيه ويسانده هو كما تعود دائما.. قلت له : " انت كنت عامل زي الاب يعني وهي بتعتمد عليك .. لو كانت هي غير ناضجة زي ما بتقول .. ليه انت حبيت الدور .. ليه كنت محتاج تعيش الدور ده؟! " .. يومئ برأسه .." معاك حق " .. الفصل الجديد يأتي وهو يخرج من اكتئابه الذي يدخله آخرون .. قالت ونبرات الألم ماتت في صوتها فبات خلو العبارة منه في حد ذاته مؤلما : " ازاي تفرح أصلا وانت مش قادر تغير دا كله ؟ " .. قال صديقي - وصديقها - الذي كان نادرا ما يتوقف عن الابتسام : " وليه أغير .. ليه ما اعيشي يومي وانا فرحان بيه وخلاص " ظهر الألم في صوتها هذه المرة : " ازاي تفرح وكل المآسي بتحصل حواليك في العالم .. ازاي تكون فرحان وسط دا كله ازاي ؟! " .. كنا نجلس علي مقهي آخر أكثر حيوية في الأسابيع التالية عندما جاءت ولوحت لنا .. تركني وابتعد حتي لاقاها .. نظرت من بعيد .. كانت تدفن رأسها في صدره في قلب الشارع وتجهش بالبكاء .. عرفت منه بعدها عن مرضها بالاكتئاب والعقاقير التي تتعاطاها من سنوات .. وكيف ماتت والدتها وعندها نفس المرض .. مرت أسابيع أخري بعد هذا اللقاء .. هذه المرة كان قد أحضر لها هدية خاصة .. كنا سنلاقيها مع أصدقاء آخرين في مصر الجديدة لا في وسط البلد .. سألته عن المناسبة قال أن لا مناسبة .. " أنا لما باحب أعبر لواحد عن حاجة باعبر وخلاص .. عمري ما جبت هدية في مناسبة " .. نظرت له شزرا وأنا أفكر .. تذكرت الفتاة التي كانت نائمة بجواري في القطار من أيام قليلة .. كيف فكرت في شئ أقوله طول الطريق .. لكنها كانت نائمة .. الحقيقة أني ربما لم أكن لأفكر في شئ لو أم أرها نائمة بهذه الوداعة الرائعة .. تسائلت كثيرا عن مبرراتي وعن غرابة ما قد أفعله وربما سخافته .. محطة الوصول تقترب وأنا أفكر.. نظرت الي سوستة حقيبتها نصف المغلقة .. انتهيت الي حل متوسط .. أخرجت قلما ونوتة .. دونت بعض الكلمات في النوتة .. قلت وأنا أناوله النوتة ليدون طلبات طعام المجموعة ونحن علي المقهي الصاخب في قلب الحي الراقي  " أنا دايما باتحرك بنوتة وقلم دايما بادون " .. تذكرت التدوين ونحن نسير في الميدان القديم .. غصة مؤلمة في حلقي وأنا أتذكر حرصي علي توثيق كل لحظة وتصوير كل حدث .. كأني أدركت أن كل هذا سيطويه النسيان فلابد من تذكره .. الآن أريد أن أنزع قبضة الألم التي تعتصرقلبي لأني لا أستطيع النسيان !! بعض الجنود يستريحون في هذا الوقت المتأخر في قلب الكعكة متوسطة الميدان .. بدا من الاشارات التي يحملونها أنهم كانوا ينظمون المرور حول مداخل الميدان .. بدوا في منتهي البساطة والتفاهة التعب ! .. نظرت الي الحوائط المطلية في العمائر القديمة .. قال صديقي - الأول صاحب قصة الفقد - : "عارفين انهم دهنوا كل العمارات دي وفي الشوارع الجانبية بالكامل ".. نظرت الي محل كنتاكي والي بعض الكلمات الباقية علي الحائط بجواره لم تمحي بعد .. تابع صديقي : " انتوا عارفين لما توصلوا لان مفيش حاجة مهمة ولا تسوي .. مفيش حاجة قبل كه ولا بعد كده .. انكم عايشين منتهي النشوة وقمة الشجن وحتي الموت مش مهم .. عارفين الاحساس ده .. لما تفقدوا الاحساس ده دا شئ مؤلم جدا ".. اففففففففف .. فقد تاني !! المحطة تقترب وأنا علي وشك القاء الورقة في الحقيبة نصف المفتوحة .. يرن جرس التليفون .. افف .. اتصال انتظرته طول الطريق .. ترددت في الرد .. المحطة تقترب .. انتظرت الاتصال طول الوقت الا الآن .. رفعت التليفون .. مسألة تتعلق بالعمل .. توصلت للحل غير أن الوقت المناسب يضيع .. مثل كل اللحظات التي ضاعت ولم تعد .. موقع ياهو يسقط أحد أكبر منتدياته .. آلاف المشتركين وآلاف الكلمات والحوارات والبيانات .. آلاف الذكريات تسقط في لحظات خاطفة لأن التكلفة أكبر من حصيلة الشركات الكبري .. مناشدات الآلاف للشركة الكبري لتحفظ سجل المدونات تذهب سدي .. ضربات القوي الحاكمة تمحو في لحظة تاريخك الذي تبذل نفسك تصنعه .. ما الذي يجب أن تعلق نفسك به ؟ .. ما الذي يضمن لك ألا تسقط فجأة لو تمسكت بأي شئ ؟ ما الذي يدفعك لتنهي قصتك في ليلة نوفمبرية كالحة ؟ شابة جميلة يافعة .. قالوا شيئا عن كفاحها ومواجهتها مع أعدائها وأصدقائها الذين تخلوا عنها علي السواء .. قالوا شيئا عن العالم الذي لم تعد تتحمله .. قالوا شيئا عن جمال بسمها وطيبة قلبها الذي لم يتحمل .. ما الذي لا يمكنك تحمله ؟ أن لا تغير مسار العالم ؟ أو أن لا تحكي قصتك ؟ ان حكي قصتك لا يستلزم الكثير .. أول مرة أدخل المدرسة العريقة في مدينة البحر المذهلة.. شباب وشابات كالزهرات يضيئون ساحة الجزويت بحكاياتهم عن ما حصل معهم وحصل للدنيا في وجودهم .. يأخذون أنفاسهم العميقة ويفتحون لمشاهديهم منفذا ليزفروا بعمق معهم ويرقصون .. يرقصون لأن العالم غبي رغم كل الجبروت العاصف به .. أغبي من أن يفهم رقصاتهم أو يقاومها .. لن يغيروا العالم .. ولن يمنعهم العالم أيضا عن الرقص .. لن يغير قدرتهم علي الحكي والغناء .. المعركة ليست بالسهولة أبدا لكنها متكافئة .. قصر نظرتك أو ضعف استسلامك الذي يدفعك لتنهي حياتك  قبل أن تروي روايتك وأنت ترقص علي أطراف البحر في مواجهة رياح ديسمبر العاصفة ؟!!  .. عندما وصلنا الي الصخور جلسنا .. ربما لم يكونا مهتمين كثيرا بتفاصيل قصتي لكني اهتممت بأن أرويها لهم .. لم يعد يعنيني الاحتفاظ بالاسرار لتموت في الظلام بلا لحن تعزفه أخير .. أحببت أن أخبرهم أني لست مخيفا كما يتخيلون وأخبرتهم .. لا تبحث عن حل بل اعزف مقطوعتك وارحل في هدوء.. لم يخبروني بحل ولم أنتظر منهم تعاطفا ..كنا فقط نحكي الحكايات ونضحك والبرد الذي يعانق البحر لا يقدر علي أن ينالنا أو يثنينا عن متعة لحظتنا الراكدة .. عندما وصلنا مصر الجديدة نتكلم ونحن نخترق الشوارع عن روعة المكان والمباني .. قلت له أنه لم يشاهد سوي القليل من طابع المكان الخاص .. عندما جلسنا علي المقهي الصاخب تعجبت وسألته عن الفارق بين مقهي في وسط البلد ومقهي في مصر الجديدة .. أخبرته أني توقعت أن نجلس في ركن هادئ تنطلق منه موسيقي هادئة تعكس روح المنطقة .. كلمني عن الرائحة التي يحملها المكان .. عن مذاق الجلسة الخاص .. الحياة التي يبثها ويرويها المكان .. روح الزحام الخاصة التي تميز البشر رغم تشابه الزحامات ! .. " المسافرين المهمومين في مقاهي رمسيس غير المشحونين بانفعالاتهم في وسط البلد غير الهادئين في المعادي غير المرحين في مصر الجديدة " .. قال أنت ترهق نفسك بالتساؤل والبحث عن شئ .. " توقف عن التساؤل والبحث .. تأمل الوجوه واستنشق عبير المكان .. تمسك باللحظة فقط وعش ما تحبه فيها ببساطة " .. أتمسك باللحظة وأعش ما أحبه ؟!! .. المحطة اقتربت .. لا بل الرصيف .. دخلنا حدود المحطة بالفعل وأنا أستغرق في مكالمة لعينة عن العمل الذي لا يتوقف .. الورقة لا تزال في يدي .. و تحين نظرة مني الي النافذة .. أراها علي انعكاسها قد استيقظت .. يا ربي .. تعتدل وتعدل وضعها .. أشرع في انهاء المكالمة .. وصل الرصيف تقريبا .... تعتدل قائمة .. أفهم أنها تريد العبور .. أنهيت المكالمة وتوقفت .. أفسحت الطريق .. لكنها انتظرت توقف القطار .. فكرت للحظات كأنها دهر .. ثم وقفت أنا أيضا ... فكرت لحظات أخري ولم أفعل شيئا .. تحركت أمامها للنزول .. الورقة لا تزال بيدي .. توقف القطار .. نزلت وتوقفت لثوان دون أن ألتفت خلفي .. كان المطر ينهمر وكان الخارجون يركضون هاربين .. كان علي أن أعبر الي الرصيف الآخر لانتظار القطار الآخر .. وكانت محطتها الأخيرة .. لماذا لم أفعل شئيا .. فكرت لدقيقة .. ونظرت للورقة بيدي .. توقفت كثيرا رغم أن الجميع كانوا يركضون حولي .. الولد الذي كان يركض في محطة المترو هاربا من أخته كان يعود الي أبيه ليفلت منها فيستقبله هو أيضا بالركلات  والأحضان ويغرق الثلاثة في نوبة ضحك هستيرية .. راقبت طفلة وحيدة هادئة مع أبيها تنظر الي الثلاثة مستمتعة .. تريد أن تشارك ولا تفعل .. قلت لصديقي : " الاطفال دول أجمل حاجة في العالم  ".. أشرت للطفلة التي تكلم أبيها وتسأله عن الآخرين " هم هيروحوا ولا هيفضلوا يلعبوا هنا لحد ما ننزل ؟ " ضحكت من قلبي " شايف الجمال سامع بتقول ايه " .. ضحك صديقي وهو يقول : " طب ما تتجوزبقي يا ابني وتجيب عيلين وتنبسط " .. ضحكت .. قلت له : " اتجوز عشان اجيب عيلين .. هم حلوين دلوقت بس .. وقت قليل وينضموا لطابور طويل من الكائنات البغيضة ويسألوا آبائهم ليه جابوهم العالم ده !! "  .. يواصل الطفلين الركض خلف بعضهما مع والدهما الضاحك حتي علي سلالم المحطة .. كنت أركض كالمجنون بحقيبتي الثقيلة خارجا من محطة القطار .. المطر ينهمر بجنون كما لم ينهمر من قبل .. الشارع متخم بالسيارات المسرعة .. نظرت حولي متوغلا في الظلام مسترشدا بالاضاءات الوامضة للمصابيح المتباعدة .. ركضت مرة أخري عابرا الطريق .. لمحتها أخيرا علي بعد .. حاولت الاشارة حاولت الصراخ .. كانت تتحرك بسرعة تحت المطر باتجاه بعض السيارات الواقفة .. توقفت متجنبا سيارة مسرعة .. انتظرت عبور أخري ثم واصلت الركض لاهثا .. وصلت المكان .. نظرت حولي .. نظرت للسيارات .. لم أجد لها أثرا .. توقفت لحظة .. بركان يتصاعد بداخلي رغم البرد والمطر المنهمر .. سعير يكفي لحرق المدينة بأسرها .. أقبض علي حقيبتي بيد .. وعلي الورقة بيدي الأخري .. أتمتم بكلمات غاضبة .. لا أعرف ما الذي ألعنه تحديدا .. أركل حجرا بكل قوة .. ألتفت عائدا أدراجي الي المحطة متخبطا لا أري .. استقبل صديقي صديقته استقبالا حافلا .. كانت قد عادت من عزاء والد احدي صديقاتها ولكنها كانت سعيدة .. تذكرت حالة الاكتئاب التي كانت عليها من أسابيع .. كيف كانت مؤهلة لترحل مع الراحلين في نوفمبر .. لكننا وصلنا يناير وهي الآن سعيدة ومتحمسة رغم عودتها من مناسبة حضرها الموت شخصيا .. يا ربي .. موسم جديد يبدأ من الفرح .. لا بأس .. جولة رابحة ضد الموت وجولة جديدة حماسية تبدأ .. رائع  .. سلمت عليها بسعادة حقيقية .. نظَرَت الي الهدية ثم الي صديقي في سعادة شَكَرَتْه حقا لا مجاملة " تعيش وتجيب ".. قال صديقي شيئا عن الصداقة والسعادة .. وقال شيئا عن اعجابه بالمقهي المزدحم .. يحب مثل هذه الأماكن المزدحمة .. تناولنا العشاء مع باقي الأصدقاء وغرقنا في الضحك والكلام .. حانت مني نظرة الي صديقي في نشوته " استنشق عبير المكان وتمسك فقط باللحظة  .. وعش ما تحبه فيها ببساطة " تذكرت أني وقفت وحدي علي الرصيف ذلك اليوم .. كان المطر قد توقف أخيرا .. أمسكت الورقة التي تبللت أجزاء منها .. مزقتها قطع صغيرة وأطلقتها .. كان نفير قطاري القادم قد علا .. وكان بركان صدري يهبط مترجعا .. وتوقف القطار أخيرا .. وبدأت رحلة جديدة .. بلا حلول .. بلا أوراق 

No comments:

Post a Comment